إن الحقيقة مفهوم معياري، والإنسان حينما يفكر أو حينما يتكلم فإنه يروم الحقيقة. غير أن تحديد الدلالة الفلسفية للحقيقة تعتبر إشكالية فلسفية ليس من السهل ضبطها نظرا لتنوع المواقف حولها. هكذا نطرح السؤال التالي : ما هي الحقيقة؟
إن مفهوم الحقيقة في دلالته الشائعة غالبا ما يستند على معيار أساسي هو معيار الواقعية. هكذا يكون الحقيقي هو الوجود القابل للإدراك الحسي المباشر، أو القابل للتحقق الواقعي.
إن هذا التمثل ليس كليا خاطئا، ولا يبتعد كثيرا عن بعض التمثلات الفلسفية (المذهب التجريبي مثلا)، إلا أنه اصطلاح قاصر. فمن الملاحظات التي يمكن أن تسجل عليه، أن الحقيقة ليست دائما واقعية أو مطابقة بشكل مباشر للواقع. فالحقيقة الرياضية – مثلا – برهانية، والإبداعات الفنية والأدبية الخيالية حقيقة، ليس لأنها مستمدة من الواقع ولكن لضرورتها الوجدانية.
إن عدم الدقة الذي يشوب الدلالة الشائعة للحقيقة يستدعي منا أن نطلب مفهوم الحقيقة في دلالتيه اللغوية والفلسفية. فهذا الجرجاي يحدد مفهوم الحقيقة فيما هو ثابت ومستقر ويقيني. هكذا يكون للحقيقة معنى لغوي ومعنى فلسفي أنطولوجي. فالثابت لغة هو المعنى الحقيقي ويقابله المعنى المجازي ؛ والثابت أنطولوجيا هو الجوهر وتقابله الصورة. وذلك ما يزيد إشكالية تحديد مفهوم الحقيقة تعقيدا، الأمر الذي يدفع بنا إلى اللجوء إلى التحديد الفلسفي مباشرة مع الفيلسوف الفرنسي لالاند Lalande. يحدد هذا الفيلسوف المعنى الفلسفي لمفهوم الحقيقة في خمس دلالات هي :
الحقيقة هي خاصية كل ما هو حق.
الحقيقة هي القضية الصادقة.
الحقيقة هي ما تمت البرهنة عليه.
الحقيقة هي شهادة الشاهد الذي يتكلم عما رآه أو ما سمعه …
الحقيقة هي الواقع.
من خلال ما قدمه لالاند يتبين أن مفهوم الحقيقة في دلالته الفلسفية العامة يتأرجح بين عدة مدلولات. وهذا ما يتيح لنا فرصة طرح الإشكالية الفلسفية لهذا الدرس، والتي يمكن التعبير عنها بواسطة التساؤلات التالية : ما هي علاقة الحقيقة بالواقع ؟ ما هي أنواع الحقيقة ؟ فيم تكمن قيمة الحقيقة؟